الأحد، 2 فبراير 2014

أبوأحمد... ومرض السُكر ... قصة قصيرة

كان أبو أحمد من كبار ضباط الشرطة، وذو رتبة كبيرة (عميد) من أوائل ضباط الشرطة ولهُ من الخدمة أربعون عاماً ويتمتع بشخصية أمنية منضبطة وذات حضور قوي في كل المجالات والمناسبات، الى أن تخيل المجتمع بأن هذه الشخصية هي فعلاً جزء من عملها، الرجل ليست لديه أوقات معينة للعمل وأخرى للمنزل او الحياة الاجتماعية مثل الاخرين، أربعون عاماً على تواصل ليل نهار بعملة سوا من مكتبه او من منزلهُ، تحول عمله الى جزء من حياته أينما كان، ثقافته عالية مقارنة بزملائه الضباط الكبار، عموماً مرت كل هذه الاربعون عاماً كأنها شهر .
أستمرار أبو أحمد بمنصبه يعني طول الخدمة وعراقة الخبرة التي تخدم أينما كانت وغالباً الاوطان تكون في أمس الحاجة لمثل هذه الشخصيات اللتي اينما وضعتها وبأي منصب تحتاجها تكون جاهزة تسيير الاعمال، حيث أنها مشبعة بالثقافة الادارية وبخبرة قلما تعجز عن العطأ .
ولكن هكذا شخصية غالباً ما تعيق الاخرين بسبب الاقدمية النظامية والخدمية في ترفيعاتهم ورتبهم، ولهذه المكانة تتكون لديهم اسباب عدم الارتياح لمثل شخصية أبوأحمد ووجوده في هذا المنصب الامني والاداري الكبير، وأنتقالهم الى رتبة أعلى يترتب عليها ترفيع أبو أحمد أو أستقالته او أحالته للتقاعد او ينتقل الى ربه ... اذاً هناك حالة عدم استقرار وعدم ارتياح من أبوأحمد بشكل غير معلن .... وعليه المغادرة!!!

هناك مرض ينخر بجسم وعظام ودماء أبوأحمد، ولم ينتبه لهُ أبوأحمد الا بعد فوات الاوان وبعد أن تمكن منه السكر ومخمخ وصلب شرايينه ، وأضعف نظره، ونقله الى الشيخوخة بشكل سريع أسرع مما توقعه المقربين منه، لعبت الغرقرينة برجليه وتقرر نقله بأسرع وقت للعلاج بأمريكا بأحدى عيادات (مايوكلينك العالمية) لسبعين يوماً، ثم عاد أبوأحمد لارض الوطن ولكن بأجزاء مبتورة من أطرافة بسبب القرقرينة لعنها الله وبتقارير طبية تشرح ضعف جسمه وضيق شرايينه، وبأن السكر لا يزال ينخر بجسمه العريض !!

أجتمعت القيادة بالشرطة لبحث ماذا تفعل وكيف تتعامل مع وضع أبوأحمد؟! .... بالخلفية هناك من الضباط وقبل الاجتماع من يقول ها هي تأتينا كهدية والفرصة سانحة لكي يغادرنا نهائياً الى منزله ... ويترك لنا الساحة ..... والبعض الاخر من المسئولين بالوطن يعتبرون خروجه فعلاً خسارة لا تتعوض ..... تقرر بالاجتماع بأن يحال أبوأحمد الى التقاعد نهائياً .

بعد مرور ستة شهور تم ترفيع أغلب المجموعة الى رتبة عميد ..... وبعدها بسنة ترفعوا الى رتبة لواء ..... وقدى الطريق سالك لهم في كل شيء، والتفاهمات بالاشارة تتم .... سمع أبوأحمد عن كل تلك الترفييعات والرتب الجديدة !!! .... وكان يكرر ماشاألله رتب الالوية بالشرطة تعدت عدد الالوية العسكرية بالجيش!! ..... الظاهر كانوا ينتظرون خروجي؟!
يتسائل أبو أحمد عن الاصدقاء وزملاء العمل، وقتصر زواره على أفراد أسرته وبعض الارحام فقط!! .... وكان يكرر كل تلك الوجوه أنا من رشحتها للعمل معي، وانا من أهتم بهم ... وأنا من مديت يد العون بهم .... ولكن أرجو أن يجعلوا الوطن نصب أعينهم وأن لا يتمادوا في خدمته .
أبو أحمد ينتقل الى مرحلة أخرى من المرض وهي العجز عن المشي .... ويدخل مرحلة الزحف المتعب بسبب تطور مرض السكر لديه ..... أبوأحمد ينادي أبنهُ أحمد ..... أرجوك يا أحمد أن تقوم ببناء غرفة لي بجانب المجلس ليتسنى لي الزحف بسهولة منها الى المجلس والى الحمام ...... أنشالله يا لوالد وفالك طيب ... وارجوك يا لوالد لا تشيل هم الغرفة الان ...... بعد عدت شهور أكتملت الغرفة الجميلة بذوق أحمد وديكوراتها الجميلة وقليلة التكلفة .... ولكنها بدون سرير! ..... فرشة بسيطة لينام عليها أبوأحمد ..... ومنها زحفاً الى الحمام وكذلك زحفاً الى المجلس لمقابلة الظيوف وسماع أخبارهم .... ولكن يتسأل أبوأحمد عن زملاء العمل ولماذا لم يزره أحداً منهم؟! .... اذاً عليه الاتصال بهم ومطالبته لهم شفهياً أن يزوروه ..... وكلما أتصل أبوأحمد ردت عليه السكرتاريا وطلبت منه الانتظار .... ويبقى أبوأحمد على الخط ينتظرهم يردون عليه !! .... ولا حياة لمن تنادي!! ..... بعد مرور شهران على المحاولات المستمرة منه توقف أبوأحمد عن الاتصال بهم ..... يضع أبوأحمد نظارة القراءة ويقرا الجريدة اليومية عسى أن تكون جميع الاخبار طيبة، وذات يوم قرأ موضوع تكريم جميع ضباط الشرطة وبتسم ... وقال في نفسه بهذه المناسبة أكيد هناك زيارة لي منهم ..... وهذه فرصة لاعتب عليهم لعدم زيارتهم لي ..... طبعاً لم يزره أحد منهم ..... بعد عدة شهور تغيرت نفسيته ... يفكر لماذا الابواب مغلقة ولماذا هي بعيدة ؟! .... يستأنف الزحف تعودت يديه على رخام الارضيات وبلاطها، ويتكون لديه أحساس كأنهُ يسحب القوة من تلك الارضيات التي يمر عليها زحفاً .... أم أحمد تقول لهُ .... أنت تذكرني بتلك الايام عندما كنا صغار وشباب حين كنت تجدف بالماشوة وأنا معاك .... يبتسم هو ويقول أكملي القصة ، هناك تكملة لها .... وماذا فعلنا على ذلك البر الذي وصلناه بالتجديف؟ ..... أنت هكذا لا تخجل بأسألتك هذه ..... وفعلاً تحولت يداه الى مجدافان بسبب الزحف المستمر ..... وتحول لون جسده الى اللون الابيض بسبب بعده عن الشمس والعمل تحتها ..... ويقول بينه وبين نفسه عندما يتقدم الانسان بالعمر يتحول جسمه كالعذج الفاضي والخاوي من الرطب والبسر .... يناظر تلك الاطراف المبتورة من جسده بسبب السكر !! ..... لا يرغب بالتفكير بها ويقول ماذا حل بي؟! .... أنا لا ازال صغير التفكير قوي التفكير قلبي لا يزال قوي .... لماذا يا سُكر تغزيني وانا لا اتناولك بكثرة ..... ليس السُكر حلو وسريع الذوبان أو الاحتراق ..... بل أنت شيء أخر غير معروف ..... أبوخليفة لا يرغب برؤية الخادمات تنظف غرفته او مجلسه .... بل أم أحمد عليها فعل ذلك مقابل كل ذلك العمر والحياة والحب والارتباط الروحي والجسدي بها ..... يومياً تأتي أم خليفة بماكينة التنظيف وتنظف تقريباً كل شيء .... ولكن تناظر أنزعاجه بسبب صوت الماكينة .... ترفها الى اعلى ستائر الغرفة .... وتكنس بجد وقوة مشوبة بقلق داخلي وانفعال لا تخطئه العين .... تتلعثم وهي تكنس وتدمع عينها للحال الذي هم فيه ..... يزحف الى الخارج ليستنشق بعض الهواء وليبتعد عن ضوضاء التنظيف .... تراه يبتعد وهي تراقبه ينفعل يرتفع ضغطها .... لماذا يغادرها ؟! لماذا لا يركز فيها وبها؟! تقول لابنتها ساره دعيه يغادر .... رئحة المجلس والغرفة لا تحتمل ..... ساعديني في فتح النوافذ يا ساره .... كل النوافذ رجاءً .
ساره تسأل أمها ... لماذا لم نأتي بكرسي متحرك للوالد .... كلمته عن الكرسي ولم يرحب بالفكرة .... واصريت عليه بأن الكرسي المتحرك سيوفر لهُ مناورة ممتازة في حالة خرجنا الى حديقة او سفر او الى أي جهه .... ولكن لا تستعجلي سيأتي اليوم الذي يطلب الكرسي المتحرك فيه ...... ساره .... كما ترين يا الوالده .
يزحف ويسحب جسمه الفاقد لبعض الاطراف (ناقص) ليس لديه شيء غير الزحف والهمهمة الغير واضحة.... ولكنها تنم عن عدم الرضا وعدم الارتياح .... وواضح بأنه يفتقد أشياء كثيرة .... المكتب ، الضباط ، الافراد ، الحياة التي تأقلم عليها لسنوات وسنوات طوال .... من باب المجلس الى النافذة الوحيدة المطلة على الشارع مسافة طويلة وتستغرق وقت  للوصول لها .... الكنبة تلك تحت النافذة وهي الوحيدة التي يقدر على تسلقها للنظر خارج المجلس ..... ولن يهدى لهُ بال اذا لم يصل الى هناك .... ولن يتردد في فتح تلك النافذة ... تعودت أم أحمد أن تراه وهو على الكنبة يناظر الى الخارج، ولكن هي لا تركز على الخارج معهُ بل تركز على تلك الاجزاء التي بُترت من جسده القوي والعريض ... وتتسائل بينها وبين نفسها هل مرض السكر يصل بالانسان الى هذه الحالة .... وانا اعرف زوجي معرفة شديدة الوضوح، واعرف القوة التي يتمتع بها هذا الجسد القوي .... كم حملني على كتفه وكم رفعني وكم ضمني وكم وكم وكم .... ماذا سيحدث؟! هل أنتهت كل تلك الايام؟ هل السُكر أثر على وضعه الرجولي؟ هل بأمكانه أشباع رغباتي كما كان بالماضي القريب؟! تمر اليلالي ولا يناديني! هل قتل السُكر تلك الرغبة لديه؟ انا في الاربعينات وهو في أواخر الخمسينات .... يعني كلينا لم نصل ذلك العمر الذي يتوقف عنده كل شيء .... وتكمل أم أحمد كم كنت أتمنى أن يوافق على مساعدتي لهُ النفسية والفيسيلوجية أيضاً .... يا ألله رحمتك ومساعدتك لي في تسهيل كل المهمات الاتية على هذه العائلة المسالمة .
ألابن أحمد ..... ماذا يحدث لنا؟ ولماذا تمت كل الامور في اقل من سنة؟ وكيف أعمل في حالة لا قدر الله توفي الوالد الحزين والمتوعك .... أنا أعلم بأن هناك الكثير من البشر يعانون من مرض السُكر، ولكنهم لم يصلوا الى هذه المرحلة التي وصلها والدي وفي وقت قصير جداً مقارنة بغيره من المرضى ..... هل الامور تعتمد على الاجساد أم هي الجينات أم ماذا بضبط ؟! ...... أنا لم اتصور بأنني سأمر بمرحلة كهذه .... وبتفكير مرعب كهذا .... وكيف سأتعامل مع والدي ومزاجه المتعكر بسبب هذا الزائر الغير مرغوب به؟ ..... والمشكلة بأن الوالد تطورت لديه الاوضاع النفسية ... يميل للعزلة، ولا يرغب برؤيته بهذا الشكل بهذه العلة والوضع .... هو يختلف عن البقية .... هو عسكري منضبط لا يود الخروج الا منتصب القامة ..... طيب ... هناك أمور كثيرة يجب القيام بها .... واولها عمل توكيل عام رسمي قانوني لادارة الامور خارج المنزل ومتابعتها.... هناك أمور معلقة بالبلديات والبنوك والدوائر وغيرها، وهناك قروض بنكية كما كان يقول لي ..... يا ألله متى يتوقف تفكيري عن كل تلك الاوجاع ..... سهلها يا رب .

يا أم أحمد أرجوك عندما تحدثيني لاتناظري الاجزاء المبتورة من جسمي أرجوك .... كوني متفهمه .... أبو أحمد يكره نفسه حين يراها تركز على تلك الاطراف .... ويقول بينه وبين نفسه حين تفقد أحدى أطرافك لن يتحملك الاخرون ..... يا أحمد يا أحمد .... تعال بجانبي ..... اسمعني جيداً .... لا تتوقف عن ممارسة الرياضة وبتعد عن الكسل ولا تعطي أنشغالات الحياة فرصة القضاء عليك أبداً أبداً ..... أنشاء الله يالوالد .

أبو أحمد يسمع صفارة سيارة الاسعاف ..... تمر بجانب المنزل .... يا أم أحمد تعالي هنا .... ماذا يحدث؟ أنا لازلت حي ..... لماذا هذه الصفارات؟! ...... لا يا أبو أحمد جارتنا أم سعيد كانت تعاني من السُكر منذ خمس سنوات وتوفاها ألله اليوم ..... بسم الله الرحمن الرحيم ..... يعني دوري أنا بعدها! ..... وهي لم تخسر أي من أطرافها ومع ذلك ماتت .... يا أحمد لا تذهب الى العمل غداً رجاءً ..... أذهب الى مكتب المتابعة للمحاماة وأتني بالمحامي عبدالله الى هنا رجاءً ..... الا أله الا ألله .... أم سعيد أمس مطرشه غدانا واليوم ماتت .... ذهبت الى غير رجعة ..... يعني ستدفن تحت الرمل ..... وستلعب الديدان بجسدها ..... ماذا يحدث يارب؟! .
أرجوكم أتركوا الاباواب ونوافذ مفتوحة ..... يا أحمد .... الليلة عليك النوم هنا معي ..... ساره تكلم أمها لماذا طلب من أحمد أن ينام معه الليلة؟! ..... والدك خايف من الموت بعد أن سمع عن أم سعيد . 
اليوم الجديد .... يدخل أحمد والمحامي عبدالله ..... ما تشوف شر يا بو أحمد يا حضرة العميد ..... يرد أبو أحمد ... شكراً يا أستاذ عبدالله ..... أسمعني .... أرغب في عمل توكيل عام ورسمي يشمل كل شيء ....كل شيء.... مني  لابني أبني أحمد (توكيل شامل وعام وأن يذكر به كل ما ممكن أن يعيقه القانون ... يعني تصرف المالك بملكه) ..... هل فهمتني؟ ..... جهز التوكيل في يومين ..... ولا تأتيني الا وكاتب العدل معك وملف التوكيل .... علينا أن نخلص من الموضوع في مدة أقصاها أسبوعان رجاءً .... ولا تدعني أوسوس بالموضوع .... ولا تأتيني بطلبات تعجيزية من تلك التي تبتدعونها عندما لاترتاحون لعمالائكم ..... ضحك المحامي عبدالله .
بعد أسبوع صديق أحمد يطرق الباب ..... يا أحمد ..... أحمد يفتح الباب .... مرحبا يا عيسى ..... ماذا لديك ؟ .... بعد ساعتان يحين موعد صلاة الظهر وبعدها سنصلي على جثمان صاحب البقالة غلوم الايراني لنكسب ثواب وحسنات ..... أحمد أسكت يا عيسى لا يسمع الوالد ..... يا الله ترحمنا برحمتك ..... أنشاء ألله سأوافيك بالمسجد ..... يا أحمد .... أبو أحمد ينادي ..... من كان على الباب؟ ..... صديقي عيسى يعزمني على الغداء بمنزله ...... ونعم الرجل عيسى .... يخرج أحمد دون أن يخبر والدته عن صاحب البقالة غلوم الايراني ...... يرن هاتف سارة مكالمة من أحدى صديقاتها ..... سمعتي عن صاحب البقالة ؟! ..... لا لم أسمع شيء! ...... ماذا حدث لهُ ...... صديقة سارة ... توفى البارحة بالليل وكتشفوه اليوم صباحاً .... وسيصلوا عليه عند الظهر الله يرحمه .... لا يزال يطالبنا بعض المبالغ المالية ..... اه ... يا ساره من أتصل؟ ..... هذه صديقتي متصله تقول البقال غلوم توفي أمس .... لا حول ولا قوة الا بالله .... ماذا يحدث للعالم؟ ..... يا أم أحمد أسمع لديكم حركة ..... ماذا يحدث؟ .... لا يالغالي .... هذا البقال غلوم الايراني .... ماذا يُريد البقال ؟ ..... لا يا أبو أحمد .... أنا قصدي أقول .... يقولون بأنه توفى الى رحمة الله أمس واليوم بيصلون عليه لكسب الاجر ..... شو هذا الكلام يا أم أحمد يعني شهرين ويموت الفريج (الحي) كاملاً ..... هذه أرادة ألله يا بو أحمد .... يعني خلاص قربنا على الموت .... بعد عمرٍ طويل يا أبو أحمد ... ويعلنا ما نخلا عنك يا رب . 

عاش أبو أحمد ثلاثون عاماً أضافية .... ولم يتبقى من عائلته الا أبنته ساره وزوجها بالمنزل الكبير .... 

بن مهاه














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق